هل حقًّا سوريا آمنة؟ | شهادة

من اعتصام «سوريا ليست آمنة» أمام البرلمان الدنماركيّ | فلسطين إسماعيل

 

خرجت من المقهى والأفكار المتسارعة تخبط في رأسي، هل قسوت على ذلك الشابّ أثناء نقاشنا حول ما يحدث في القدس وحيّ الشيخ جرّاح، حين قال إنّه يحترم وجهة نظري بصفتي فلسطينيّة، ولكن ثمّة طرف آخر يمكن أن تكون له وجهة نظر أخرى؟ هل ظلمته حين قلت له إنّه استعلائيّ، وببساطة لا يريد اتّخاذ موقف من قضيّة أخلاقيّة وإنسانيّة قبل أن تكون أيّ شيء آخر؟ هل وهل وهل؟

 

شكرًا حلا

كلّ هذه الأفكار توقّفت عندما رأيت تلك العائلة الشابّة جالسة على رصيف كوبنهاجن، أوقفتني شقاوة الفتاة الصغيرة، وتوقّفت حينذاك عن الجري بعيدًا، توجّهت نحوهم وألقيت التحيّة، وتعارفنا، أنا من فلسطين وهم من سوريا، أمّا ابنتهم حلا الّتي لا تتعدّى سنّها السنوات الستّ، كانت كما أنّ الدنيا مُشْ واسِعْتْها، تركض وتضحك وتلعب معي، ثمّ تهرب من والدها وتضحك، ويجري والدها خلفها وتراوغه، وتستمرّ في الضحك والجري.

كلّ هذه الأفكار توقّفت عندما رأيت تلك العائلة الشابّة جالسة على رصيف كوبنهاجن، أوقفتني شقاوة الفتاة الصغيرة، وتوقّفت حينذاك عن الجري بعيدًا، توجّهت نحوهم وألقيت التحيّة، وتعارفنا، أنا من فلسطين وهم من سوريا...

فهمت منهم أنّهم كانوا يحاولون الوصول إلى اعتصام السوريّين أمام البرلمان الدنماركيّ، لكنّهم لم يجدوا الطريق إلى المكان، فهم يسكنون في منطقة تبعد 5 ساعات عن العاصمة كوبنهاجن.

عرضت عليهم مرافقتهم إلى أقرب نقطة من مكان الاعتصام، ورحّبوا بذلك. تحدّثنا في الطريق عنهم وعن الطفلين، عن سوريا وفلسطين والحياة في الدنمارك. عندما وصلنا إلى نقطة الافتراق، عانقت الأمّ وعانقت حلا دون تردّد، رغم أنّني تخلّيت عن هذه العادة، كما فعل كثيرون منذ زمن بعيد بسبب الكورونا. واصلت طريقي، وقرّرت أن أزور الاعتصام قدر المستطاع في الأيّام المقبلة.

 

طارق وسارة

بدأت مجموعة من نحو 100 لاجئ سوريّ في الدنمارك، اعتصامًا مفتوحًا أمام البرلمان الدنماركيّ في كوبنهاجن. ويأتي الاعتصام احتجاجًا على سحب تصاريح الإقامة للّاجئين السوريّين من منطقة دمشق، بدعوى أنّ المنطقة آمنة، ويمكن اللّاجئين العودة إليها والعيش حياة طبيعيّة.

وصلت إلى الاعتصام دون تخطيط. كنت أسير في المدينة، وفجأة تذكّرت حلا وعائلتها. ذهبت مباشرة إلى المكان الّذي تجمّع فيه المعتصمون، تحدّثت إلى أب وابنته جاءا إلى الاعتصام من منطقة تبعد نحو 4 ساعات عن كوبنهاجن. يقول طارق الأب: "منذ جئت وعائلتي إلى الدنمارك وأنا أعمل، كان لديّ مطعم أغلقته مؤخّرًا بسبب أزمة الكورونا، ولكن الحمد لله". ابنته سارة تدرس في المدارس الدنماركيّة، هذه هي فترة امتحانات نهاية العام الدراسيّ، لكنّها قرّرت رغم ذلك المشاركة في الاعتصام ولو لمدّة يومين، لأنّها ووالدها تلقّيا مؤخّرًا رفضًا لتمديد تصريح إقامتهما. بقي أخي الأصغر في المنزل يدرس وأنا أريد أن أكون هنا. علينا أن نفعل شيئًا، تبدأ العطل الرسميّة خلال شهر، ونحن علينا أن نغادر الدنمارك حتّى نهاية شهر حزيران (يونيو). طارق يريد العودة إلى سوريا، لكنّه مصدوم من سرعة القرار. أعني، إذا أعطونا كم سنة، يجب على الأبناء إنهاء تعليمهم، كيف يمكنهم المغادرة الآن؟

بعد أن أنهينا حديثنا ألقيت عليهما التحيّة، وتمنّيت أن تتحسّن الأمور، وأن يتغيّر الوضع، وغادرت مثقلة؛ لأنّني لم أكن أعرف ماذا أقول لهما، عدا تمنّياتي بأن تُحَلّ هذه الأزمة.

 

"لم نخرج من جوع"

قرّرت الذهاب للاعتصام في الصباح، هذا اليوم مفصليّ إلى حدّ ما في موضوع السوريّين؛ إذ سيناقش البرلمان إمكانيّة اعتبار مناطق أخرى من سوريا مناطق آمنة، وإذا حدث ذلك فهذا يعني أنّ مجموعات اللاجئين الّذين كانوا بالأمس في وضع آمن إلى حدّ ما، سوف ينضمّون إلى المجموعة المرشّحة لرفض تمديد تصريح إقامتهم.

التقيت هدى وزملاءها الّذين كانوا جالسين على مدرّج أمام البرلمان. حين طلبت أن ألتقط صورًا لهم، ردّت عليّ سيّدة، بالطبع ممكن. بعد ذلك سألت المجموعة: "مَنْ المرأة الّتي سمحت لي بالتقاط الصور؟". فأجابتني هدى: "أنا". ثمّ بدأنا الحديث. تقول هدى: "إنّني من درعا، ولديّ تصريح إقامة، ولا يوجد حاليًّا تهديد على وضعي القانونيّ في الدنمارك، لكنّني أشعر بعدم الاستقرار والخوف، إذا وافق البرلمان على توسيع منطقة الأماكن الآمنة، فسيعتبر هذا تهديدًا لي ولعائلتي أيضًا. جئت إلى الاعتصام للتعبير عن دعمي وتضامني مع اللاجئين الآخرين". وحين سألتها عن عائلتها ذكرت بفخر أنّ ابنتها تدرس بكالوريوس «تاريخ الشرق الأوسط» في «جامعة كوبنهاجن»، وهي تتعلّم باللغة الدنماركيّة، رغم أنّهم في الدنمارك منذ 5 سنوات فقط.

 

 

أمّا صديقتها أميرة الّتي هي من درعا أيضًا، فتقول: "نحن لم نخرج من سوريا عن جوع، بل خرجنا بحثًا عن الأمان".

بينما كنت أتحدّث إلى هدى وأميرة، كنت أسمع ضجّة متزايدة على الجانب الآخر من البرلمان، حيث كان تجمّع لأشخاص يقرعون على الأواني. تجاهلت الضوضاء أوّلًا، ولكن عدد الأشخاص الّذين كانوا يقومون بذلك كان آخذًا بالازدياد. في البداية لم أشعر بما كان يحصل؛ لأنّني شبّهته تلقائيًّا بما يحدث في فلسطين، وتخيّلت أنّ هذه الحشود كانت من المستوطنين الّذين أتوا لتخريب التظاهرات الفلسطينيّة، ولكن بعد أن سألت، فهمت أنّ المجموعة متظاهرون دنماركيّون متضامنون مع قضيّة السوريّين، والّذين يريدون من خلال القرع على أوانيهم إزعاج أعضاء البرلمان، وإثارة انتباههم لكي يطلّوا من شبابيكهم على المعتصمين. ازداد القرع، وتعدّدت الأدوات، وانضمّ كثير من السوريّين إلى القرع، وأضافوا إلى الأواني وسائل أخرى مثل الطاولات والكراسي. لقد كانت لحظات جميلة عندما أصبح هذا النوع من الضجيج وسيلة للاحتجاج متناغمة، ولو للحظات، مع عاصمة هادئة عادة مثل كوبنهاجن.

بالعودة إلى هدى، تقول إنّ أختها تعيش في السويد، وقد حصلت على الجنسيّة السويديّة منذ مدّة طويلة، بينما يحارب اللاجئون في الدنمارك على الحقّ في تصريح إقامة مؤقّت فقط. يحزنها ما تسمعه من القصص عن اللاجئين الآخرين، وتعطي مثالًا عن شابّ كرديّ، كان عنوانه الأخير دمشق قبل مغادرته سوريا، حيث عمل هناك لبضع سنوات. ليس لديه عائلة ولا بيت ولا شيء في دمشق. أصله من بلدة المالكيّة (ديريك بالكرديّة) الواقعة بالقرب من الحدود السوريّة التركيّة، ورغم ذلك رُفِضَ تجديد تصريحه. أخيرًا، تُضيف هدى أنّ الأشخاص الّذين صمدوا وتحمّلوا 20 يومًا في البحر، ليتمكّنوا من الهروب من الحرب، إضافة إلى أنّ منازلهم دُمِّرَت، ولم يبق لهم شيء، يريدون حياة كريمة لأنفسهم وعائلاتهم، هذا هو فقط ما نريده.

 

رحاب

عندما تحدّثت إلى طارق في أوّل زيارة لي إلى الاعتصام، ذكر قصّة امرأة من مخيّم اليرموك تريد السلطات ترحيلها وحيدة، رغم أنّ عائلتها تعيش في الدنمارك. طلبت من الشباب تعريفي بها، وذهبت لأتحدّث معها. كانت تجلس في الصفّ الأوّل من الاعتصام، تستمع إلى خطب الشباب السوريّ والمتضامنين معهم. تُدْعى رحاب، وهي في الأصل من قرية لوبية الفلسطينيّة المدمّرة، تبلغ من العمر 65 عامًا، وتعاني من مشكلة في العمود الفقريّ، وكذلك في الرئتين بسبب استنشاق الكيماويّ، على حدّ قولها؛ إذ لا تتجاوز سعة رئتها 30 بالمئة. تروي رحاب أنّها جاءت إلى الدنمارك لزيارة ابنها قبل 8 سنوات، ثمّ تقدّمت بطلب لجوء، بسبب الحرب والوضع في مخيّم اليرموك، حيث تعرّضت للاضطهاد من قِبَل الحكومة السوريّة.

في حالة رحاب وآخرين ممّن رُفِضَ تجديد إقامتهم، فهذا يعني أنّه يجب عليهم مغادرة الدنمارك في غضون 30 يومًا من صدور القرار، وإذا لم يفعلوا ذلك، فإنّ الشرطة ستلقي بهم في معسكر/ مركز للترحيل...

حصلت رحاب على تقاعد في بداية العام الحاليّ بسبب وضعها الصحّيّ الخاصّ. تضيف رحاب أنّها تلقّت أيضًا رفضًا لتجديد تصريح إقامتها، وعندما امتثلت أمام القاضي، أخبرها بأنّه يتعيّن عليها العودة لإعادة إعمار سوريا وبنائها. "كيف يمكنني أن أعمّر سوريا وأنا في هذه الحالة الصحّيّة؟"، وأضافت: "خرجت من المحكمة وجئت إلى هنا، ودخلت الاعتصام مباشرة، وأنا هنا منذ أكثر من 17 يومًا".

في حالة رحاب وآخرين ممّن رُفِضَ تجديد إقامتهم، فهذا يعني أنّه يجب عليهم مغادرة الدنمارك في غضون 30 يومًا من صدور القرار، وإذا لم يفعلوا ذلك، فإنّ الشرطة ستلقي بهم في معسكر/ مركز للترحيل. في مركز الترحيل يمكنهم فقط تناول الطعام والشراب والنوم؛ أي سجن باختصار، حسب قول رحاب.

أعلنت رحاب أنّها لن تنتقل من مكان الاعتصام، ولا تريد مغادرة الدنمارك. إضافة إلى حقيقة أنّ مخيّم اليرموك هُدِّمَ وأنّها مريضة. لديها هنا 3 أبناء و7 أحفاد في الدنمارك، وجزء منهم حاصل على الجنسيّة الدنماركيّة، وتريد أن تقضي باقي حياتها بينهم.

 

الدكتورة

أمّا فايزة فقد أثارت انتباهي أثناء تجوالي بين المعتصمين عندما سمعت خطابها. تتحدّث اللغة الدنماركيّة بطلاقة، وشدّت انتباهي حين قالت: "نحن هربنا من الحرب في سوريا، لكنّنا هنا نتعرّض لحرب من نوع آخر؛ حرب نفسيّة من قِبَل السياسيّين الدنماركيّين". وتضيف: "لن نذهب من هنا، لن نتعب يا متياس (وزير الهجرة والاندماج الدنماركيّ) ولن نستسلم". ألهمت فايزة الجمهور، ودبّت فيهم روح التصميم، بعد أن أنهت خطابها ذهبت للتحدّث معها.

تبلغ فايزة 25 عامًا وتدرس التمريض، تعيش في الدنمارك منذ 7 سنوات، بالإضافة إلى تعليمها تعمل في سوبر ماركت، وتوضّح بفخر أنّ مفاتيح السوبرماركت معها لأنّها مثابرة ومسؤولة، ويقدّر المسؤولون عملها، بالإضافة إلى ذلك هي متدرّبة ليلًا في المستشفى، جزءًا من دراستها.

 

 

وصل رفض تجديد الإقامة إلى فايزة في 31 آذار (مارس) من هذا العام، وعندما قدّمت التماسًا إلى دائرة الهجرة ومحكمة تظلّم اللاجئين، تلقّت رفضًا نهائيًّا وترحيلًا في غضون 30 يومًا. لكن أُعيدَ فتح قضيّتها مرّة أخرى في المحكمة، وتنتظر الآن تحديد موعد البثّ فيها مرّة أخرى.

فايزة هي الوحيدة من الأسرة الّتي وصلها رفض تجديد الإقامة، أختها ووالدتها ووالدها لديهم إقامة. إذا تقرّر ترحيل فايزة، فهذا يعني أنّ عليها المغادرة بمفردها. تضيف فايزة أنّه عندما تلقّت قرار الرفض، توقّفت عن الدراسة تلقائيًّا؛ لأنّه وفقًا للقوانين في الدنمارك، لا يمكنك الاستمرار في الدراسة إن لم يكن لديك تصريح إقامة ساري المفعول، لكنّني عدت إلى الدراسة مرّة أخرى في شهر أيّار (مايو) بعد أن فتحت قضيّتي مرّة أخرى، خلال تلك الفترة لم أنم من القلق.

تحلم فايزة بأن تصبح طبيبة، ولا تريد أن تترك كلّ هذا، فهي تعبت كثيرًا، "إذا حصلت على رفض مجدّدًا، سأبقى معتصمة أمام البرلمان حتّى يأتي السياسيّون ويسمعونا"، تقول.

 

مطبخ العمليّات

بعد وداع فايزة والتمنّيات لها في البقاء مع عائلتها في الدنمارك وتحقيق أحلامها، توجّهت إلى خيمة صغيرة هي بمنزلة مطبخ العمليّات، كانت كأنّها خليّة نحل مليئة بالشباب الّذين ينسّقون وينظّمون الاعتصام، ويحافظون على النظام، ويساعدون أيضًا الصحافة والإعلام.

بالإضافة إلى ذلك، تصل لهذه الخيمة المساعدات والدعم للمعتصمين من تبرّعات. حين تحدّثت إلى الشباب فهمت أنّ كثيرين يدعمون هذا الاعتصام من خلال التبرّع بالطعام والماء، وحتّى موادّ الرسم والفنّ من أجل القيام بأنشطة الرسم والأشغال اليدويّة للأطفال الموجودين مع أسرهم.

تحلم فايزة بأن تصبح طبيبة، ولا تريد أن تترك كلّ هذا، فهي تعبت كثيرًا، إذا حصلت على رفض مجدّدًا، "سأبقى معتصمة أمام البرلمان حتّى يأتي السياسيّون ويسمعونا"، تقول.

بعدها طلب منظّمو الاعتصام من جميع الحاضرين عمل دائرة حول البرلمان، وشُكِرَ كلّ مَنْ دعمهم واعتصم معهم من دنماركيّين وغيرهم، ووجّه القائمون على الاعتصام نداءهم للسياسيّين الدنماركيّين، وللدنماركيّين عامّة؛ لكي يدعموهم ويدعموا حقّهم في الحصول على الإقامة وعلى حياة كريمة في الدنمارك.

وأخيرًا، في طريق خروجي من الاعتصام، شاهدت عصام، تبادلنا التحيّة، وسألته عن سارة، فقال لي: "إنّ التلفزيون الفرنسيّ يرافقها، تعالي آخذك عندها". ذهبت إليها، وعرّفتني بدورها على والدتها سهاد وشقيقتها سما، عانقتها، وطلبت من الأسرة إخباري عندما تعود مرّة أخرى للاعتصام، وغادرت وأنا أشعر بالنشاط والتفاؤل والأمل؛ لمعايشتي ومشاهدتي هذا النوع من النضال الإبداعيّ المليء بالرقيّ والشجاعة، لشعب رغم همومه يصرّ على الكفاح من أجل الحياة كريمة.

 

 

فلسطين إسماعيل

 

 

وُلِدَت في الناصرة وتقيم في كوبنهاجن. خبيرة إعلاميّة في مجال الإستراتيجيّات وتطوير الإعلام والاتّصال. مختصّة في إدارة المنظّمات غير الحكوميّة. تهتّم في أبحاثها وكتابتها بحقوق المرأة واللّاجئين والنازحين.